ثلاثة أشهر فقط، كانت كافية لأن أسدل الستار عن حقيقة لم أكن أراها من قبل. ثلاثة أشهر انكشفت فيها المرايا المزيّفة التي كنا نصدق انعكاسها، وانكشفت معها هشاشة الروابط التي بدت في ظاهرها متينة، بينما هي في جوهرها غبار متناثر، لا يثبت على سطح الروح ولا يسندها ساعة الاحتياج.
كان هاتفي مزدحمًا بعشرات الأرقام، أسماء اعتدت أن أراها على الشاشة وكأنها قائمة أمان. ومع ذلك، اكتشفت أن تلك الأرقام لا تمثل أكثر من مكالمات صادرة؛ أنا من يبادر بالسؤال، أنا من يمدّ اليد، أنا من يحاول جمع خيوط الحلول في لحظات التخبط، بينما لم يأتِني في المقابل سوى صمت بارد، أو أعذار تُصاغ على عجل.
في تلك الأشهر، واجهت الحقيقة المُرّة: الهاتف، ذلك المجسم ذو الشاشة الكبيرة، لم يكن سوى سراب. وهْم يَعِدك بالوصل، لكنه يتركك أمام سراب الوحدة. كان هناك من يتهرب عمدًا، ومن يترك الرنين أيامًا بلا إجابة، ومن يكتفي بالضغط على زر “مشغول” وهو يسرح في عالم السوشيال ميديا، يوزع اهتمامه على أخبار الغرباء بينما يتجاهل القريب.
في البداية، لم أستسلم بسهولة. حاولت أن أخدع نفسي، أن أجد لهم أعذارًا مقنعة. قلت: ربما لا يتفرغون للحظة، ربما يخشون أن يسمعوا همًّا جديدًا يزيد من أعبائهم، ربما لديهم ما يكفيهم من جراح الحياة. لكن مع مرور الأيام والأسابيع، ومع تكرار الموقف مرارًا، أيقنت أن الحقيقة أوضح من أن تُطمس. ليسوا مشغولين، بل متحررين من أي التزام عاطفي أو إنساني. يتركونك تطرق أبوابهم فلا يفتحون، ثم يلوحون بعبارة جوفاء: “ياريتك كنت قولتلي”. عبارة تُقال كأنها إبراء ذمة، بينما هي في حقيقتها إدانة صامتة لصداقة لم تكن موجودة يومًا.
ومع هذا الإدراك، تغيّر منظور العالم. لم تعد الوحدة مرادفًا للعزلة أو الضعف، بل تحولت إلى أعظم مساحات الحرية الداخلية. أن تبقى منفردًا يعني أن تحمي نفسك من الخيبات المتكررة، أن تصون قلبك من الوعود الفارغة، أن تكتشف أن السلام النفسي لا يولد من كثرة العلاقات، بل من صفاء العلاقة مع ذاتك.
الوحدة ليست سجناً، بل فضاء رحب يُعيد إليك صلتك الحقيقية بالحياة. ففي غياب الزيف، تسمع صوتك الداخلي بوضوح. وفي صمت الهاتف، تكتشف أن العالم لم يكن صاخبًا كما كنت تظن، بل كان مجرد صدى لأصوات الآخرين. إن أعظم اكتشاف في تلك الأشهر لم يكن خيانة الأصدقاء أو تلاشي الاهتمام، بل إدراكي أنني لم أعد بحاجة لكل ذلك كي أستمر.
لقد صار الهاتف بالنسبة لي مرآة غبارية – ثراب – تُظهر ما لا حقيقة له، وتخفي ما هو أثمن: قدرتي على الاكتفاء. وأدركت أن أقسى درس في التجربة، هو في الوقت ذاته أعمق هدية: أن تتوقف عن البحث عن نفسك في قلوب الآخرين، وأن تدرك أن السكينة الحقيقية لا تُمنح، بل تُبنى داخل الروح، بعيدًا عن كل شاشات السراب.


